الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: اجتمعت بالأمير أبي الفتوح بن العاضد وهو مسجون مقيد في سنة ثمان وعشرين وستمائة فحكى لي أن أباه في مرضه استدعى صلاح الدين فحضر فأحضرونا يعني أولاده ونحن صغار فأوصاه بنا فالتزم إكرامنا واحترامنا. ثم قال أبو شامة: وهم أربعة عشر خليفة وعدهم نحوًا مما ذكرناه إلى أن قال: ويدعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي حتى اشتهر لهم ذلك بين العوائم فصاروا يقولون الدولة الفاطمية والدولة العلوية وإنما هي الدولة اليهودية والمجوسية الملحمة الباطنية. قال: وقد ذكر ذلك جماعة من العلماء الأكابر وأنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحًا بل المعروف أنهم بنو عبيد وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي. قال: وقيل إن والد عبيد هذا كان يهوديًا من أهل سلمية وكان جوادًا. وعبيد كان اسمه سعيدًا فلما دخل المغرب تسمى بعبيد الله وادعى نسبًا ليس بصحيح قال ذلك جماعة من علماء الأنساب. ثم ترقت به الحال إلى أن ملك المغرب وبنى المهدية وتلقب بالمهدي وكان زنديقًا خبيثًا عدوًا للإسلام من أول دولتهم إلى آخرها وذلك من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة. وقد بين نسبهم جماعة مثل القاضي أبي بكر الباقلاني فإنه كشف في أول كتابه المسمى بكشف أسرار الباطنية عن بطلان نسب هؤلاء إلى علي - رضي الله عنه - وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد استقصى الكلام في أصولهم. انتهى. قلت. وقد ذكرنا نوعًا من ذلك في عدة تراجم من هذا الكتاب من بني عبيد المذكورين وفي المحضر المكتتب من جهة الخليفة القائم بأمر الله العباسي وغيره. وقال بعضهم: كانت وفاة العاضد في يوم عاشوراء بعد إقامة الخطبة بيوميات قليلة في أول جمعة من المحرم لأمير المؤمنين المستضيء بالله والعاضد آخر خلفاء مصر فلما كانت الجمعة الثانية خطب بالقاهرة أيضًا للمستضيء بسائر الجوامع ورجعت الدعوة العباسية بعد أن كانت قد قطعت بها أعني الديار المصرية وأعمالها أكثر من مائتي سنة. وتسلم السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب قصر الخلافة واستولى على ما كان به من الأموال والذخائر وكانت عظيمة الوصف وقبض على أولاد العاضد وحبسهم في مكان واحد بالقصر وأجرى عليهم ما يمونهم وعفى آثارهم وقمع مواليهم وسائر نسائهم. قال: وكانت هذه الفعلة من أشرف أفعاله فلنعم ما فعل فإن هؤلاء كانوا باطنيين زنادقة دعوا إلى مذهب التناسخ واعتقاد حلول الجزء الإلهي في أشباحهم. وقد قال الحاكم لداعيه: كم في جريدتك قال ستة عشر ألفًا يعتقدون أنك الإله. وقال قائلهم - وأظنه في الحاكم بأمر الله -: الكامل ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار قال: فلعن الله المداح والممدوح فليس هذا في القبح إلا كقول فرعون: أنا ربكم الأعلى. وقال الحافظ شمس الدين الذهبي: وقال بعض شعرائهم في المهدي - وهو غاية في الكفر -: مخلع البسيط حل برقادة المسيح حل بها آدم ونوح حل بها الله في علاه وما سوى الله فهو ريح قال: وهذا أعظم كفرًا من النصارى لأن النصارى يزعمون أن الجزء الإلهي حل بناسوت عيسى فقط وهؤلاء يعتقدون حلوله في جسد آدم ونوح والأنبياء وجميع الأمة. هذا اعتقادهم. لعنهم الله!. وقال القاضي شمس الدين بن خلكان - رحمه الله -: سمعت جماعة من المصريين يقولون: هؤلاء القوم في أوائل دولتهم قالوا لبعض العلماء: أكتب لنا ألقابًا في ورقة تصلح للخلفاء حتى إذا تولى واحد لقبوه ببعض تلك الألقاب. فكتب لهم ألقابًا كثيرة وآخر ما كتب في الورقة العاضد فاتفق أن آخر من ولي منهم تلقب بالعاضد. وهذا من عجيب الاتفاق. وأخبرني أحد علماء المصريين أيضًا: أن العاضد المذكور في آخر دولته رأى في منامه أنه بمدينة مصر وقد خرجت إليه عقرب من مسجد هو معروف بها فلدغته. فلما استيقظ ارتاع لذلك فطلب بعض معبري الرؤيا وقص عليه المنام فقال: ينالك مكروه من شخص هو مقيم بالمسجد. فطلب والي مصر وقال له: اكشف عمن هو مقيم بالمسجد الفلاني - وكان العاضد قد رأى ذلك المسجد - فإذا رأيت أحدًا أحضره إلي. فمضى الوالي إلى المسجد فوجد به رجلا صوفيًا فأخذه ودخل به إلى العاضد. فلما رآه سأله من أين هو ومتى قدم البلاد وفي أي شيء قدم وهو يجاوبه عن كل سؤال. فلما ظهر منه ضعف الحال والصدق والعجز عن إيصال المكروه إليه أعطاه شيئًا وقال له: يا شيخ ادع لنا وخلى سبيله وخرج من عنده وعاد إلى المسجد. فلما استولى السلطان صلاح الدين على الديار المصرية وعزم على قبض العاضد وأشياعه واستفتى الفقهاء وأفتوه بجواز ذلك لما كان عليه من انحلال العقيدة وفساد الاعتقاد وكثرة الوقوع في الصحابة والاشتهار بذلك فكان أكثرهم مبالغة في الفتيا الصوفي المقيم بالمسجد وهو الشيخ نجم الدين الخبوشاني. انتهى كلام ابن خلكان. ولما استولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر كتب إلى الوزير ببغداد على يد شمس الدين محمد بن المحسن بن الحسين بن أبي المضاء البعلبكي الذي خطب أول شيء بمصر لبني العباس بإشارة السلطان صلاح الدين وكان الكتاب من إنشاء القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني وكان مما فيه: وقد توالت الفتوح غربًا ويمنًا وشامًا وصارت البلاد بل الدنيا والشهر بل الدهر حرمًا حرامًا وأضحى الدين واحدًا بعد ما كان أديانًا والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف لم يخروا عليها صفًا وعميانًا والبدعة خاشعة والجمعة جامعة والمذلة في شيع الضلال شائعة وذلك بأنهم اتخذوا عباد الله من دونه أولياء وسموا أعداء الله أصفياء وتقطعوا أمرهم بينهم شيعًا وفرقوا أمر الأمة وكان مجتمعًا وكذبوا بالنار فعجلت لهم نار الحتوف ونثرت أقلام الظبا حروف رؤوسهم نثر الأقلام للحروف ومزقوا كل ممزق وأخذ منهم كل مخنق وقطع دابرهم ووعظ ائبهم غابرهم ورغمت أنوفهم ومنابرهم وحقت عليهم الكلمة تشريدًا وقتلا وتمت كلمات ربك صدقًا وعدلا. وليس السيف عمن سواهم من كفار الفرنج بصائم ولا النيل عن السير إليهم بنائم. ولا خفاء عن المجلس الصاحبي أن من شد عقد خلافة وحل عقد خلاف وقام بدولة وقعد بأخرى قد عجز عنها الأخلاف والأسلاف فإنه مفتقر إلى أن يشكر ما نصح ويقلد ما فتح ويبتغ ما اقترح ويقدم حقه ولا يطرح ويقرب مكانه وإن نزح وتأتيه التشريفات الشريفة. - ثم قال بعد كلام آخر -: وقد أنهض لإيصال ملطفاته وتنجيز تشريفاته خطيب الخطباء بمصر وهو الذي اختاره بمصر لصعود المنبر وقام بالأمر قيام من بر. واستفتح بلبس السواد الأعظم الذي جمع الله عليه السواد الأعظم. ثم كتب السلطان صلاح الدين إلى الملك العادل نور الدين يطلب منه أباه وأقاربه ويأتي ذلك كله في ترجمة صلاح الدين مفصلا إن شاء الله تعالى. وقد ذكرنا أقوال جماعة من العلماء والمؤرخين في أحوال العاضد وتوليته ووفاته ونسبه. والآن نذكر
بني عبيد من ديار مصر وابتداء ملك بني أيوب على سبيل الاختصار مجملا. وقد ذكرنا ذلك كله في التراجم والحوادث على عادة سياق هذا الكتاب من أوله إلى آخره غير أن الذي نذكره هنا متعلق بالوزراء وكيفية انفصال الدولة فأول الأمر قتل العاضد وزيره الملك الصالح طلائع بن رزيك وكنيته أبو الغارات الأرمني الأصل. أقام وزيرًا بمصر سبع سنين وقد ذكرنا ابتداء أمره في آخر ترجمة الظافر وأول ترجمة الفائز وكان الفائز معه كالمحجور عليه. ولما مات الفائز أقام العاضد هذا في الخلافة وتولى تدبير ملكه على عادته وولى شاور بن مجير السعدي الصعيد. ثم ثقل طلائع هذا على العاضد فدبر في قتله. فلما كان عاشر شهر رجب سنة ست وخمسين وخمسمائة حضر الصالح طلائع إلى قصر الخلافة فوثب عليه باطني فضربه بسكين في رأسه ثم في ترقوته فحمل إلى داره وقتل الباطني. ومات الملك الصالح طلائع بن رزيك من الغد فحزن الناس عليه لحسن سيرته وأقيم المأتم عليه بالقصر وبالقاهرة ومصر. وكان جوادًا ممدحًا فاضلا شاعرًا كثير الصدقات حسن الآثار بنى جامعًا خارج بابي زويلة يعرف بجامع الصالح وآخر بالقرافة وتربة إلى جانبه وهو مدفون بها. وقام بعده في الوزر ابنه رزيك بن طلائع بن رزيك ولقب بمجد الإسلام. وفرح العاضد بقتل طلائع المذكور إلى الغاية وكان في ذلك عكسه على ما يأتي: وهو أن رزيك لما وزر مكان والده طلائع سار على سيرة أبيه فلم يحسن ذلك ببال العاضد فأحب ذهابه أيضًا ليستبد بالأمور من غير وزيرة فدس إلى شاور فتحرك شاور بن مجير السعدي من بلاد الصعيد وجمع أوباش الصعيد من العبيد والأوغاد وقدم إلى القاهرة تحرابًا لرزيك. فخرج إليه رزيك بن طلائع وقاتله والعاضد في الباطن مع شاور فانهزم رزيك. ودخل شاور إلى القاهرة وملكها وأخرب دور الوزارة ودور بني رزيك واختفى الوزير رزيك المذكور إلى أن ظفر به شاور وقتله. يأتي بعض ذكر ذلك في الحوادث كل واحد على حدته. وتولى شاور الوزارة فعامل العاضد بأفعال قبيحة وأساء السيرة في الرعية وأخذ أمر مصر في وزارته في إدبار. ولما كثر ظلمه خرج عليه أبو الأشبال ضرغام بن عامر من الصعيد - وقيل من مصر - وحشد. فخرج إليه شاور بدسته فهزمه ضرغام وقتل ولده الأكبر طيئ وخذل أهل القاهرة شاور لبغضهم له. فهرب شاور إلى الشام ودخل إلى السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي المعروف بالشهيد فالتقاه نور الدين وأكرمه. فطلب شاور منه النجمة والعساكر وأطمعه في الديار المصرية وقال له: أكون نائبك بها وأقنع بما تعين لي من الضياع والباقي لك. فأجابه نور الدين لذلك وجهز له العساكر مع الأمير أسد الدين شيركوه بن شادي الكردي أحد أمراء نور الدين. وخرجوا من دمشق في العشرين من جمادى سنة سبع وخمسين وخمسمائة وكان مع أسد الدين شيركوه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب في خدمته. فلما وصلوا إلى القاهرة خرج إليهم أبو الأشبال ضرغام بن عامر بن سوار فحاربهم أيامًا ووقع بينهم حروب وأمور يطول شرحها إلى أن التقوا على باب القاهرة فحمل ضرغام بنفسه في أوائل الناس فطعن وقتل واستقام أمر شاور. فكانت وزارة ضرغام تسعة أشهر. واستولى شاور ثانيًا على القاهرة. وكان خبيثًا سفاكًا للدماء. ولما ثبت أمره ظهر منه إمارات الغدر بأسد الدين شيركوه. فأشار صلاح الدين يوسف بن أيوب على عمه أسد الدين شيركوه بالتأخر إلى بلبيس. وكان أسد الدين لا يقطع أمرًا دون صلاح الدين ففعل ذلك وخرج إلى بلبيس وبعث أسد الدين يطلب من شاور رزق الجند أعني النفقة فاعتذر وتعلل عليه. فكتب أسد الدين إلى نور الدين يخبره بما جرى ودس شاور إلى الفرنج رسلا يدعوهم إلى مصر ويبذل لهم الأموال فاجتمع الفرنج من الساحل وساروا من الداروم متفقين مع شاور على أسد الدين شيركوه. فتهيأ أسد الدين لحربهم وحاربهم فقوي الفرنج عليه وحاصروه بمدينة بلبيس نحو شهرين حتى صالحهم أسد الدين على مال. وكان حصارهم له من أول شهر رمضان إلى ذي القعدة. ووقع بينهم حروب وأمور حتى بلغهم أن نور الدين الشهيد قصد بلادهم من الشام فعند ذلك رجعت الفرنج وصالحوا أسد الدين شيركوه فعاد أسد الدين إلى الشام وهو في غاية من القهر. وأقام شاور بالقاهرة على عادته يظلم ويقتل ويصادر الناس ولم يبق للعاضد معه أمر ولا نهي. وأقام أسد الدين بدمشق في خدمة نور الدين إلى سنة اثنتين وستين فعاد بعساكر الشام إلى مصر ثانيًا. وسببه أن العاضد لما غلب عليه شاور كتب إلى نور الدين يستنجده على شاور وأنه قد استبد بالأمر وظلم وسفك الدم. وكان في قلب نور الدين من شاور حرازة لكونه غدر بأسد الدين شيركوه واستنجد عليه بالفرنج. فخرج أسد الدين بعساكر الشام من دمشق في منتصف شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وستين المذكورة وسار أسد الدين ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب حتى نزل بر الجيزة غربي مصر على بحر النيل. وكان شاور قد أعطى الفرنج الأموال وأقطعهم الإقطاعات وأنزلهم دور القاهرة وبنى لهم أسواقًا تخصهم. وكان مقدم الفرنج الملك مري وابن نيرزان. فأقام أسد الدين على الجيزة شهرين وعمى إلى بر مصر والقاهرة في خامس عشرين جمادى الآخرة وخرج إليه شاور والفرنج. ورتب شاور عساكره فجعل الفرنج على الميمنة مع ابن نيرزان وعسكر مصر في الميسرة وأقام الملك مري الفرنجي في القلب في عسكره من الفرنج. ورتب أسد الدين عساكره فجعل صلاح الدين في الميمنة وفي الميسرة الأكراد وأسد الدين في القلب فحمل الملك مري على القلب فتعتعه وكانت أثقال المسلمين خلفه فاشتغل الفرنج بالنهب وحمل صلاح الدين على شاور فكسره وفرق جمعه. وعاد أسد الدين إلى ابن أخيه صلاح الدين وحملا على الفرنج فانهزموا فقتلا منهم ألوفًا وأسرا مائة وسبعين فارسًا. وطلبوا القاهرة فلو ساق أسد الدين خلفهم في الحال فأقام صلاح الدين بها وسار أسد الدين إلى الصعيد فاستولى عليه وأقام يجمع أمواله. وخرج شاور والفرنج من القاهرة فحصروا الإسكندرية أربعة أشهر وأهلها يقاتلون مع صلاح الدين ويقوونه بالمال. وبلغ أسد الدين فجمع عرب البلاد وسار إلى الإسكندرية فعاد شاور إلى القاهرة وراسل أسد الدين حتى تم الصلح بينهم وأعطى شاور أسد الدين إقطاعًا بمصر وعجل له مالا. فعاد أسد الدين إلى الشام ومعه صلاح الدين. واعتذر أسد الدين إلى الملك العادل نور الدين محمود بكثرة الفرنج والمال. ورأى صلاح الدين لأهل الإسكندرية ما فعلوا فلما ملك مصر بعد ذلك أحسن إليهم. ثم إن الفرنج طلبوا من شاور أن يكون لهم شحنة بالقاهرة ويكون أبوابها بأيدي فرسانهم وتحمل إليهم في كل سنة مائة ألف دينار ومن سكن منهم بالقاهرة يبقى على حاله ويعود بعض ملوكهم إلى الساحل فأجابهم شاور إلى ما طلبوا منه. كل ذلك تقرر بين شاور والفرنج والعاضد لا يعلم بشيء منه. وسار بعض الفرنج إلى الساحل. وكان الملك العادل نور الدين محمود يخاف على مصر من غلبة الفرنج عليها فسار بعساكره من دمشق وفتح المنيطرة وقلاعًا كثيرة فخاف من كان بمصر من الفرنج. وبينما هم في ذلك عاد الفرنج من الساحل إلى نحو مصر في سنة أربع وستين وطمعوا في أخذها. وكان خروجهم من عسقلان والساحل إلى نحو مصر في أوائل السنة وساروا حتى نزلوا بلبيس وأغاروا على الريف وأسروا وقتلوا. هذا وقد تلاشى أمر الديار المصرية من الظلم ولم يبق للعاضد من الخلافة سوى الاسم والخطبة لا غير. فلما بلغ شاور فعل الفرنج بالأرياف أخرج من كان بمصر من الفرنج بعد أن أساء في حقهم قبل ذلك وقتل منهم جماعة كبيرة وهرب الباقون. ثم أمر شاور أهل مصر بأن ينتقلوا إلى القاهرة ففعلوا وأحرق شاور مصر. وسار الفرنج من بلبيس حتى نزلوا على القاهرة في سابع صفر وضايقوها وضربوها بالمجانيق. فلم يجد شاور بدًا أن كاتب الملك العادل نور الدين محمودًا بأمر العاضد. وكان الفرنج لما وصلوا إلى مصر في المرتين الأوليين اطلعوا على عوراتها وطمعوا فيها وعلم نور الدين بذلك فأسرع بتجهيز العساكر خوفًا على مصر. ثم جاءته كتب شاور والعاضدة فقال نور الدين لأسد الدين شيركوه: خذ العساكر وتوجه إليها وقال لصلاح الدين: أخرج مع عمك أسد الدين فامتنع وقال: يا مولاي يكفي ما لقينا من الشدائد في تلك المرة. فقال نور الدين: لا بد من خروجك فما أمكنه مخالفة مخدومه نور الدين المذكور فخرج مع عمه وساروا إلى مصر. وبلغ الفرنج ذلك فرجعوا عن مصر إلى الساحل. وقيل: إن شاور أعطاهم مائة ألف دينار. وجاء أسد الدين بمن معه من العساكر ونزل على باب القاهرة. فاستدعاه العاضد إلى القصر وخلع عليه في الإيوان خلعة الوزارة ولقبه بالمنصور وشر أهل مصر بذلك. وقيل: إنه لم يستدعه وإنما بعث إليه بالخلع والأموال والإقامات وكذلك إلى الأمراء الذين كانوا معه. وأقام أسد الدين مكانه وأرباب الدولة يترددون إلى خدمته في كل يوم ولم يقدر شاور على منعهم لكثرة العساكر ولكون العاضد مائلا إلى أسد الدين المذكور. فكاتب شاور أيضًا الفرنج واستدعاهم وقال لهم: يكون مجيئكم إلى دمياط في البحر والبر. فبلغ ذلك أعيان الدولة بمصر فاجتمعوا عند الملك المنصور أسد الدين شيركوه وقالوا له: شاور فساد العباد والبلاد وقد كاتب الفرنج وهو يكون سبب هلاك الإسلام. ثم إن شاور خاف لما تأخر وصول الفرنج فعمل في عمل دعوة لأسد الدين المذكور ولأمرائه ويقبض عليهم. فنهاه ابنه الكامل وقال له: والله لئن لم تنته عن هذا الأمر لأعرفن أسد الدين. فقال له أبوه شاور: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن كفنا. فقال له ابنه الكامل: لأن نقتل والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل والبلاد بيد الفرنج. وكان شاور قد شرط لأسد الدين شيركوه ثلث أموال البلاد فأرسل أسد الدين يطلب منه المال فجعل شاور يتعلل ويماطل وينتظر وصول الفرنج فابتدره أسد الدين وقتله. واختلفوا في قتله على أقوال أحدها أن الأمراء اتفقوا على قتله لما علموا مكاتبته للفرنج وأن أسد الدين تمارض وكان شاور يخرج إليه في كل يوم والطبل والبوق يضربان بين يديه على عادة وزراء مصر. - قلت: وعلى هذا القول يكون قول من قال: إن العاضد خلع على أسد الدين شيركوه بالوزارة ولقبه بالمنصور في أول قدومه إلى مصر ليس بالقوي ولعل ذلك يكون بعد قتل شاور على ما سيأتي ذكره. - فجاء شاور ليعود أسد الدين فقبض عليه وقتله. والثاني أن صلاح الدين وجرديك اتفقا على قتله وأخبرا أسد الدين فنهاهما وقال: لا تفعلا فنحن في بلاده ومعه عسكر عظيم فأمسكا عن ذلك إلى أن اتفق أن أسد الدين ركب إلى زيارة الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وأقام عنده فجاء شاور على عادته إلى أسد الدين فالتقاه صلاح الدين وجرديك وقالا: هو في الزيارة انزل فامتنع فجذباه فوقع إلى الأرض فقتلاه. والثالث أنهما لما جذباه لم يمكنهما قتله بغير أمر أسد الدين فسحبه الغلمان إلى الخيمة وانهزم أصحابه عنه إلى القاهرة ليجيشوا عليهم. وعلم أسد الدين فعاد مسرعًا وجاء رسول من العاضد برقعة يطلب من أسد الدين رأس شاور وتتابعت الرسل. وكان أسد الدين قد بعث إلى شاور مع الفقيه عيسى يقول: لك في رقبتي أيمان وأنا خائف عليك من الذي عندي فلا تجىء. فلم يلتفت وجاء على العادة فوقع ما ذكرناه. ولما تكاثرت الرسل من العاضد دخل جرديك إلى الخيمة وجزر رأسه وبعث أسد الدين برأسه إلى العاضد فسر به. ثم طلب العاضد ولد شاور الملك الكامل وقتله في الدهليز وقتل أخاه واستوزر أسد الدين شيركوه وذلك في شهر ربيع الأول. وهذا الذي أشرنا إليه من أن ولاية أسد الدين للوزر كانت بعد قتل شاور. ولما قتل شاور وابنه الكامل بعث العاضد منشورًا بالوزارة لأسد الدين بخط القاضي الفاضل وعليه خط العاضد بما صورته: هذا عهد لم يعهد إلى وزير بمثله فتقفد ما أراك الله أهلا بحمله وخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة واسحب ذيل الافتخار بخدمتك بيت النبوة والزم حق الإمامة تجد إلى الفوز سبيلا. " ثم أرسل العاضد نسخة الأيمان إلى أسد الدين وحلف كل واحد منهما لصاحبه على الوفاء والطاعة والصفاء. فتصرف أسد الدين شهرين ومات. ولما احتضر أوصى إلى ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب فولي صلاح الدين الوزارة ولقب بالملك الناصر على ما يأتي ذكر ذلك كله في ترجمتهما بأوضح من ذلك. ولما وزر صلاح الدين اختلف عليه جماعة من الأمراء عقيب وفاة أسد الدين. وبلغ الملك العادل نور الدين اتفاق الأمراء عليه بمصر فقال له توران شاه بن أيوب الذي لقب بعد ذلك بالملك المعظم وكان أسن من صلاح الدين: يا مولانا أريد أن أسير إلى أخي يعني إلى صلاح الدين فقال له نور الدين: إن كنت تسير إلى مصر وترى يوسف أخاك بعين أنه كان يقف في خدمتك وأنت قاعد فلا تسر فإنك تفسد العباد والبلاد فتحوجني إلى عقوبتك بما تستحقه وإن كنت تسير إليه وترى أنه قائم مقامي وتخدمه كما تخدمني أفسر إليه وأشد أزره وساعده على ما هو بصدده وإلا فلا تذهب إليه. فقال: يا مولانا سوف يبلغك ما أفعل من الخدمة والطاعة. وسار إلى مصر فتلقاه صلاح الدين من بلبيس وخدمه وقدم له المال والخيل والتحف وأقام عنده على أحسن حال وفعل ما ضمن لنور الدين من خدمة أخيه صلاح الدين وقوي أمر صلاح الدين به واستقام أمره. كل ذلك والخطبة باسم العاضد في هذه السنين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة على ما يأتي ذكره في ترجمة السلطان صلاح الدين. ولما تم أمر صلاح الدين بمصر خاف العاضد عاقبة أمره. وكان للعاضد خادم يقال له مؤتمن الخلافة وكان مقدم السودان والخدم والمشار إليه بالقصر. فأمره العاضد بقتال الترك والغز. واتفق العسكر المصري مع الخادم وثاروا على الترك فقتلوا منهم جماعة. فركب صلاح الدين وشمس الدولة ودخلا إلى باب القصر وتقاتلا مع مؤتمن الخلافة وأبلى شمس الدولة بلاء حسنًا وقتل الخادم مؤتمن الخلافة وجماعة كبيرة من السودان بعد حروب وقتال عظيم. فأرسل العاضد إلى صلاح الدين يتعتب عليه ويقول له: فأين أيماناتكم! هذا الخادم جاهل فعل ما فعل بغير أمرنا فقال صلاح الدين: نحن على الأيمان والعهود ما نتغير وما قتلنا إلا من قصد قتلنا. وقول العاضد: أين الأيمان والعهود يعني بذلك أنه لما مات أسد الدين شيركوه وأوصى لابن أخيه صلاح الدين المذكور اختلف جماعة من أمراء نور الدين الذين كانوا قدموا مع أسد الدين على صلاح الدين ورام كل واحد منهم الأمر لنفسه استصغارًا بصلاح الدين وهم: عين الدين الياروقي رأس الأتراك وسيف الدين المشطوب ملك الأكراد وشهاب الدين محمود صاحب حارم وهو خال صلاح الدين وجماعة أخر فبادر العاضد واستدعى صلاح الدين وخلع عليه في الإيوان خلعة الوزارة وكتب عهده ولقبه الملك الناصر. وقيل: الذي لقبه بالملك الناصر إنما هو الخليفة المستضيء العباسي بعد ذلك. ولما ولي الوزارة شرع الفقيه عيسى في تفريق البعض عن بعض وأصلح الأمور لصلاح الدين على ما يأتي في ترجمة صلاح الدين بعد ذلك. وبذل صلاح الدين الأموال وأحسن لجميع العسكر الشامي والمصري فأحبوه وأطاعوه وأقام نائبًا عن نور الدين يدعى لنور الدين على منابر مصر بعد الخنيفة العاضد ولصلاح الدين بعدهما. واستمر صلاح الدين على ذلك والخطبة للعاضد وقد ضعف أمره وقوي أمر صلاح الدين حتى كانت أول سنة سبع وستين وخمسمائة فكتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة لبني عبيد وأن يخطب بمصر لبني العباس. فخاف صلاح الدين من أهل مصر ألا يجيبوه ولم يسعه مخالفة أمر نور الدين وقال: ربما وقعت فتنة لا تتدارك فكتب الجواب إلى نور الدين يخبره بذلك فلم يسمع منه نور الدين وخشن عليه في القول وألزمه إلزامًا لا محيد عنه. ومرض العاضد فجمع صلاح الدين الأمراء والأعيان واستشارهم في أمر نور الدين بقطع الخطبة للعاضد والدعاء لبني العباس فمنهم من أجاب ومنهم من امتنع وقالوا: هذا باب فتنة وما يفوت ذلك والجميع أمراء نور الدين فعاودوا نور الدين فلم يلتفت وأرسل إلى صلاح الدين يستحثه في ذلك فأقامها والعاضد مريض. واختلفوا في الخطيب فقيل: إنه رجل من الأعاجم يسمى الأمير العالم وقيل: هو رجل من أهل بعلبك يقال له محمد بن المحسن بن أبي المضاء البعلبكي المقدم ذكره الذي توجه في الرسلية من قبل صلاح الدين إلى بغداد وقيل: إنه كان رجلا شريفًا عجميًا ورد من العراق أيام الوزير الملك الصالح طلائع بن رزيك. قلت: فأشبه أمر الفاطميين في هذا الأمر أمر العباسيين لما انتقلت الدعوة منهم إلى الفاطميين بني عبيد فإنه أول من خطب للمعز معد أول خلفاء مصر من بني الخطيب عمر بن عبد السميع العباسي الخطيب بجامع عمرو وجامع أحمد ابن طولون وهذا من باب المكافأة والمجازاة أعني أن الذي خطب لبني عبيد كان عباسيًا والذي خطب لبني العباس الآن علوي. انتهى أمر الفاطميين. وأقيمت الخطبة لبني العباس في أول المحرم والعاضد مريض فأخفى عنه أهله ذلك وقيل: بلغه فأرسل إلى صلاح الدين يستدعيه ليوصيه فخاف أن يكون خديعه فلم يتوجه إليه. ومات العاضد في يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة وانقضت دولة الفاطميين من مصر بموته. وندم صلاح الدين على قطع خطبته وقال: ليتني صبرت حتى يموت. ثم كتب صلاح الدين يخبر الملك العادل نور الدين بإقامة الدعوة العباسية بمصر. فكتب نور الدين كتابًا إلى بغداد من إنشاء العماد الكاتب الأصبهاني وفيه: الخفيف قد خطبنا للمستضيء بمصر نائب المصطفى إمام العصر ولدينا تضاعفت نعم الل - - ه وجلت عن كل عد وحصر واستنارت عزائم الملك العا - - دل نور الدين الهمام الأغر هو فتح بكر ودون البرايا خضنا الله بافتراع البكر وهي أطول من ذلك. وصفا الوقت لصلاح الدين وسمي السلطان وصار يخطب باسمه على منابر مصر بعد الخليفة العباسي والملك العادل نور الدين محمود. وكان ابتداء مرض العاضد من أواخر ذي الحجة سنة ست وستين وخمسمائة. فلما كان رابع المحرم سنة سبع وستين جلس العاضد في قصره بعد الإرجاف بأنه أثخن في مرضه فشوهد وهو على ما حقق الإرجاف من ضعف القوى وتخاذل الأعضاء وظهور الحمى. وقيل: إن الحمى فشت بأعضائه وأمسك طبيبه المعروف بابن السديد عن الحضور إليه وامتنع من مداواته وخذله مساعدة عليه للزمان وميلا مع الأيام. ثم خطب في سابع المحرم باسم الخليفة المستضيء بالله العباسي وصرح باسمه ولقبه وكنيته بمصر حسب ما تقدم ذكره. فمات العاضد بعد ذلك بثلاثة أيام في يوم الاثنين يوم عاشوراء. وكان لموته بمصر يوم عظيم إلى الغاية وعظم مصابه على المصريين إلى الغاية ووجدوا عيه وجدًا عظيمًا لا سيما الرافضة فإن نفوسهم كادت تزهق حزنًا لانقضاء دولة الرافضة من ديار مصر وأعمالها. وقد تقدم التعريف بأحوال العاضد في أول ترجمته من عدة أقوال فلا حاجة لتكرار ذلك في هذا المحل.
|